فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كقوله تعالى في الأول {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85]، وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48].
والصفح الإعراض عن المؤاخذة بالذنب.
قال بعضهم: وهو أبلغ من العفو.
قالوا: لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضًا عن عتابه فما فوقه.
وأما الأمر الثاني، فقد بين تعالى أنه هو شأن عباده الطيبين.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم سيدهم كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قالواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقالواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55]. وقال عن إبراهيم إنه قال له أبوه: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيًّا} [مريم: 46] قال له {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47].
ومعنى السلام في الآيات المذكورة، إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم، ومن مجازاتهم لهم بالسوء، أي سلمتم منا لا نسافهكم، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة قد جاء موضحًا في آيات كتاب الله كقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} [ص: 88] وقوله تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] وقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4- 5].
وقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3- 4].
وقوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 6- 7] إلى غير ذلك من الآيات.
وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: {فاصفح عَنْهُمْ} [89] وما في معناه منسوخ بآيات السيف، وجماعات من المحققين يقولون هو ليس بمنسوخ.
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة، والإعراض عنهم، وصف كريم، وأدب سماوي، لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.
هو بيان لقدرة اللّه، وجلاله، وعظمة ملكه، واقتدار سلطانه.
فهو سبحانه، المتفرد بالألوهة في السماء.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل السماء بالعبودية.
وهو سبحانه، المتفرد بالألوهة في الأرض.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل الأرض بالولاء ويخصّونه بالعبادة.. وأنه إذا كان في الناس من ضلّ وغوى، فانحرف عن هذا الوضع الذي يتخذه أهل السماء والأرض، فإنهم- مع هذا- مقهورون للّه، واقعون تحت سلطانه.. طوعا أو كرها، كما يقول سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا} (93: مريم) وكما يقول جل شأنه، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (15: الرعد).
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}- إشارة إلى الصفتين الكريمتين اللتين يتجلّى اللّه سبحانه وتعالى بهما على ملكه في السموات والأرض.. وهما:
الحكمة والعلم فكل ما خلق اللّه سبحانه، موزون بميزان الحكمة، مقدر بقدرها.. وكل ما في السموات والأرض، واقع في علم اللّه {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقال ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} (3: سبأ) وهكذا كل أمر- صغر أو كبر- إنما ملاكه الحكمة والعلم.. فبالحكمة يقوم الأمر، وبالعلم تضبط مصادره وموارده، ولهذا كان مما طلب به (يوسف) القيام على تدبير خزائن الأرض- أنه حفيظ عليم، فقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (55: يوسف) والحفظ شعبة من شعب الحكمة!.
قوله تعالى: {وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
هو تسبيح بحمد اللّه وتقديس لجلاله، بلسان كل مخلوق في السموات والأرض.. فهو سبحانه- المتفرد بالألوهة في السماء، والأرض.. ومن ثمّ كان كل من في السموات والأرض لسان حمد للّه، وتسبيح للّه، وولاء لجلاله.
وفى قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تذكير للناس- وهم يشهدون جلال اللّه، وعظمته في هذا الملك العظيم الذي له وحده- تذكير لهم بيوم الحساب والجزاء، الذي لا يعلمه إلا هو.. وذلك يوم يرجعون إلى اللّه، ويجزى كل امرئ بما عمل.
قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} المراد بالمدعوّين من دون اللّه هنا، هم الملائكة، الذين يعبدهم المشركون في هذه الأصنام التي سموها بأسماء أطلقوها على بعض الملائكة، مثل اللات، والعزى، ومناة، وغيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى} (27: النجم) وهؤلاء الملائكة الذين يعبدهم المشركون في تلك الأصنام التي يتمثلونها فيهم- وبتلك الأسماء التي يسمونهم بها- هؤلاء الملائكة، لا يملكون الشفاعة لأحد، كما يتوهم هؤلاء المشركون إذ يقولون عنهم: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} (3: الزمر) ويقولون فيهم: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} (18: يونس).
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} هو استثناء من عموم النفي الواقع على شفاعة الملائكة.. أي أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق، فآمن باللّه، ويرسل اللّه، وباليوم الآخر.. كما يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} (78: الزخرف).. فهؤلاء الذين كرهوا الحق وأنكروه ليس للملائكة شفاعة فيهم.. وهم أكثر المشركين.. أما من شهد بالحق من هؤلاء المشركين- وهم أقلية- وآمنوا باللّه، وأخلصوا دينهم للّه له، فإن للملائكة شفاعة فيهم، تنال العاصين منهم.. وتلك الشفاعة، هي الاستغفار لهم كما يقول اللّه تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} (7: غافر). فهذا من شفاعة الملائكة للعصاة من المؤمنين.. وهى شفاعة مقبوله عند اللّه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول {الذين} أي أن الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.. وهم يعلمون هذا.. أي يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.
ويمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي لا تشفع للملائكة إلا لمن شهد بالحق، أي شهادة قائمة على علم، يملأ القلب إيمانا واطمئنانا، لا مجرد شهادة ينطق بها اللسان دون أن تقع من القلب موقعا.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقولنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
أي أن هؤلاء المشركين إذا سئلوا عمن خلقهم، لما وجدوا بين أيديهم إلا جوابا واحدا، وهو أن اللّه هو الذي خلقهم.. إنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن الملائكة الذين يعبدونهم، هم الذين خلقوهم، وخلقوا من في السموات والأرض.
بل إنهم ليعلمون أن الملائكة من خلق اللّه، وإن كانوا أبناء للّه عندهم.
ومع هذا الإقرار منهم بخلق اللّه لهم، فإنهم لا يعبدون رب السموات والأرض، الذي خلقهم ويعبدون خلقا من خلقه.. وهذا منطق معكوس، لا يلتقى أوله مع آخره.. ولذا جاء قوله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} منكرا على هؤلاء المشركين هذا الإفك والافتراء الذي جعلوا منه دينا يدينون به، ولا مستند له من منطق، حتى منطقهم هم الذي ينتزع قضاياه من الوهم والضلال.
قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}.
القيل: معناه القول.. والضمير المضاف إليه هذا القول، هو للنبى صلوات للّه وسلامه عليه.. ومقول القول هوقوله تعالى: {يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}.
وهو مثل قوله تعالى: {وَقال الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا القرآن مَهْجُورًا} (30: الفرقان) وقد اختلف المفسرون اختلافا كبيرا في الربط بين هذه الآية وما قبلها.. كما اختلف القراء في قراءة (وَقِيلِهِ) فقرىء بفتح اللام، وقرئ بكسرها، وقرئ بضمها.. ولكل قراءة تأويل تؤول عليه.
ولا نريد أن نعرض لهذه المقولات، فهى مبسوطة في كتب التفاسير، يرجع إليها من شاء مزيدا من العلم، أو الرياضة الذهنية.
والذي نراه في تأويل هذه الآية، ونرجو أن يكون بتوفيق اللّه صوابا، هو- واللّه اعلم- أن الواو في قوله تعالى: {وَقِيلِهِ}.. هي بمعنى (مع).
وعلى هذا تكون الآية مرتبطة بقوله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.. فهذا الاستفهام ينكر عليهم أن يعبدوا غير اللّه، وأن ينصرفوا إلى غير خالفهم وخالق السموات والأرض، الذي شهدت له بذلك ألسنتهم.. ومع هذا فهم يعبدون غير اللّه، بشهادة الواقع الذي هم فيه، وبشهادة الرسول الذي خبر حالهم، وعرف الداء المتمكن منهم، فقال شاكيا إلى ربه: (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ..).
وتحرير المعنى، هو: إلى أين ينصرف هؤلاء المشركون، مع شركهم الذي هم فيه، ومع ما يرى الرسول من حالهم في المستقبل، وأنهم ممن لا يرجى صلاحهم، أو يتوقّع شفاؤهم من هذا الداء الذي معهم؟.
ولهذا جاء قوله تعالى: بعد ذلك: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
جاء رداّ على قول النبي: {يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} وداعيا له إلى الرفق بهم، ومقابلة جهلهم بالحلم، وسفاهتهم بالمغفرة والصفح.. وأنهم كلما قالوا فحشا وهجرا قال لهم سلاما ومغفرة، كما يقول سبحانه في وصف عباد الرحمن: {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالوا سَلامًا} (63: الفرقان) وكما يقول جل شأنه لنبيه الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} (199: الأعراف).
وفى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين ينتظر منهم خير كثير، وسيكون منهم بناة الإسلام، ومادة دولته التي ستظهر عما قريب.. وقد كان، فدخل كثير من هؤلاء المشركين في دين اللّه، حتى أنه إذا جاء يوم الفتح لم يبق مشرك من قريش- خاصة- لم يدخل في الإسلام.
وفى قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي أنهم هم الآن على جهل يزيّن لهم هذا الباطل الذي هم فيه، ويغذيهم بهذا السفه الذي ترمى به أفواههم.
ولكنهم مع الزمن، ومع ما يأخذهم به الرسول الكريم من حلم، وصفح ومغفرة، سيعلمون بعد جهل، ويؤمنون بعد كفر.. ويصبحون جندا من جنود اللّه، ورايات من رايات الإسلام التي تخفق في آفاق الأرض.. وليس هذا من الوعيد، كما يذهب إلى ذلك جمهور المفسرين.. فإن السورة قد ختمت بهذا الختام الذي يدعو النبي إلى الصفح والمغفرة والمسالمة.. ولا يتفق مع هذا أن يلقى النبي المشركين بالصفح والمسالمة، ثم يلقاهم اللّه سبحانه بعد ذلك بالوعيد.
هذا، واللّه اعلم.
ونود هنا، بعد ختام هذه السورة أن نشير إلى أمر كان ملفتا للنظر.
فقد كثر في هذه السورة ذكر الاسم الكريم {الرَّحْمنِ} الذي تكرر في سبعة مواضع من السورة هى:
{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا} الآية: (17) {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا} الآية: (19) {وَقالوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} الآية: (20) {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية (33) {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية: (36) {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (45).
{قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} الآية: (81) ولذكر {الرَّحْمنِ} موقعه في الآية التي ذكر فيها، كما له حكمته التي تلتمس من هذا الذكر في هذا الموضع.. فحيث ذكر (الرحمن) جلّ وعلا، كانت تجليات الرحمة، ورحمات الرحمن، مبسوطة لكل طالب، طالبة لكل معرض فمن فاته حظه من رحمة اللّه في هذا المقام فهو الشقي المحروم من كل خير ولكن الذي نريد أن نقف بين يديه موقف النظر والاعتبار، هو هذا الإكثار من ذكر هذا الاسم الكريم في تلك السورة.
وبادىء ذى بدء، فإن تكرار هذا الذكر للاسم الكريم (الرَّحْمنِ) هو تأكيد لتلك الدعوة التي يدعو إليها الرحمن عباده، ويبسط بها يده تبارك وتعالى إليهم بالرحمة، يلقاهم بها على كل طريق من طرق الغواية والضلال التي يركبونها.. فهذا الذكر نداءات متتابعة، إلى موارد هذه الرحمة الواسعة.
وهذا التكرار في ذاته، هو رحمة من رحمة اللّه.
ثم إنه- من جهة أخرى- كانت السورة كلها معرضا لمواجهة المشركين بعبادتهم الملائكة، على أنهم أبناء اللّه، وأنهم كانوا يعرفون اللّه تعالى، ويعترفون بأنه خالق السموات والأرض- كما أنه كان من أكثر أسماء اللّه عندهم هو اسم (الرَّحْمنِ) ولهذا كان الحديث إليهم عن اللّه باسم (الرحمن) إشارة إلى أنه هو الإله لذى يدعون إلى عبادته، وأن اسمه (الرَّحْمنِ) وأنه ليس له ولد.. ولهذا أنكروا أن يكون الرحمن الذي يعرفونه، هو الرحمن الذي يدعوهم النبي إلى عبادته، كما يقول اللّه سبحانه: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُورًا} (60: الفرقان) إن الرحمن في تصورهم هو أب لقبيلة كبيرة، هي الملائكة!!.
ومن جهة ثالثة، فإن موقف هذه السورة من المشركين، هو موقف ملاطفة، وموادعة، على مسيرة لدعوة التي كثرت فيها القوارع التي يقرع بها القرآن عناد المشركين، ويسفّه أحلامهم، ويفضح جهلهم.. فكانت هذه السورة أشبه بالهدنة التي يراجع فيها المتحاربون موقفهم، وقد ينتهى الأمر إلى الصلح، والسلام.. ومن أجل هذا كثر في السورة ذكر الرحمن الذي يذكّر بالرحمة التي ينبغى أن تكون بين النبي وأهله.. ولهذا دعى النبي إلى أن يصفح عنهم، وأن يلقاهم بالموادعة والسلام، وقد وعد بأنهم سيعلمون بعد الجهل، ويؤمنون بعد الكفر، فكان ختام السورة قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}.
عطف على جملة {قل إن كان للرحمن ولد} [الزخرف: 81] والجملتان اللتان بينهما اعتراضان، قصد من العطف إفادة نفي الشريك في الإلهية مطلقًا بعد نفي الشريك فيها بالبُنوة، وقصد بذكر السماء والأرض الإحاطة بعوالم التدبير والخلق لأن المشركين جعلوا لله شركاء في الأرض وهم أصنامهم المنصوبة، وجعلوا له شركاء في السماء وهم الملائكة إذ جعلوهم بنات لله تعالى فكان قوله: {في السماء إله وفي الأرض إله} إبطالًا للفريقين مما زُعمت إلهيتهم.
وكان مقتضى الظاهر بهذه الجملة أن يكون أوَّلها {الذي في السَّماء إله} على أنه وصف للرحمان من قوله: {إن كان للرحمن ولد} [الزخرف: 81]، فعُدل عن مقتضى الظاهر بإيراد الجملة معطوفة لتكون مستقلة غير صفة، وبإيراد مبتدأ فيها لإفادة قصر صفة الإلهية في السماء وفي الأرض على الله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره، لأن إيراد المسند إليه معرفة والمسند معرفة طريق من طرق القصر.
فالمعنى وهو لا غيره الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وصلة {الذي} جملة اسمية حذف صدرها، وصَدرُها ضمير يعود إلى معاد ضمير {وهو} وحذْفُ صدر الصلة استعمال حسن إذا طالت الصلة كما هنا.